مبنى الايمان على العرف والنية : أمر الايمان مبني على العرف الذي درج عليه الناس لا على دلالات اللغة ولا على اصطلاحات الشرع ، فمن حلف أن لا يأكل لحما ، فأكل سمكا فإنه لا يحنث وإن كان الله سماه لحما ، إلا إذا نواه ، أو كان يدخل في عموم اللحم في عرف قومه . ومن حلف على شئ وورى بغيره فالعبرة بنيته لا بلفظه ، إلا إذا حلفه غيره على شئ ، فالعبرة بنية المحلف لا الحالف ، وإلا لم يكن للايمان فائدة في التقاضي . قال النووي : إن اليمين على نية الحالف في كل الاحوال ، إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فهي على نية القاضي أو نائبه ، ولا تصح التورية هنا وتصح في كل حال ، ولا يحنث بها وإن كانت للباطل حراما . والدليل على أن العبرة بنية الحالف إلا إذا حلفه غيره ، ما رواه أبو داود وابن ماجه عن سويد بن حنظلة قال : خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل ابن حجر ، فأخذه عدو له ، فتحرج القوم أن يحلفوا ، وحلفت أنه أخي ، فخلى سبيله ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا ، وحلفت أنه أخي . قال : ( صدقت ، المسلم أخو المسلم ) . والدليل على أن العبرة بنية المستحلف إذا استحلف على شئ ، ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اليمين على نية المستحلف ) . وفي رواية : ( يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك ) . والصاحب هو المستحلف ، وهما طالبا اليمين . لا حنث مع النسيان أو الخطأ : من حلف أن لا يفعل شيئا ففعله ناسيا أو خطأ فإنه لا يحنث لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : - ( إن الله تجاوز لي عن أمتي : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) . والله يقول : ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ) ( 1 )
يمين المكره غير لازمة : لا يلزم الوفاء باليمين التي يكره المرء عليها ، ولا يأثم إذا حنث ( 2 ) فيها للحديث المتقدم ، ولان المكره مسلوب الارادة ، وسلب الارادة يسقط التكليف . ولهذا ذهب الائمة الثلاثة إلى أن يمين المكره لا تنعقد ، خلافا لابي حنيفة .
( هامش ) ( 2 ) الحنث في اليمين يكون بفعل ما حلف على تركه أو ترك ما حلف على فعله
الاستثناء في اليمين : من حلف فقال : إن شاء الله فقد استثنى ولا حنث عليه . فعن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف على يمين فقال : إن شاء الله . فلا حنث عليه ) . رواه أحمد وغيره ، وصححه ابن حبان .
تكرار اليمين : إذا كرر اليمين على شئ واحد أو على أشياء وحنث فقال أبو حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد : يلزم بكل يمين كفارة . وعند الحنابلة ، أن من لزمته أيمان قبل التكفير موجبها واحد فعليه كفارة واحدة ، لانها كفارات من جنس واحد . وإن اختلف موجب الايمان ، وهو الكفارة ، كظهار ويمين بالله لزمته الكفارتان ولم تتداخلا .
كفارة اليمين تعريف الكفارة : الكفارة صيغة مبالغة من الكفر ، وهو الستر ، والمقصود بها هنا الاعمال التي تكفر بعض الذنوب وتسترها حتى لا يكون لها أثر يؤاخذ به في الدنيا ولا في الاخرة . والذي يكفر اليمين المنعقدة إذا حنث فيها الحالف : 1 - الاطعام 2 - الكسوة 3 - العتق على التخيير . فمن لم يستطع فليصم ثلاثة أيام . وهذه الثلاثة مرتبة ترتيبا تصاعديا - أي تبدأ من الادنى للاعلى ، فالاطعام أدناها ، والكسوة أوسطها ، والعتق أعلاها . يقول الله تعالى : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) ( 1 )
حكمة الكفارة : الحنث خلف وعدم وفاء ، فتجب الكفارة جبرا لهذا
الاطعام : لم يرد نص شرعي في مقدار الطعام ونوعه ، وكل ما كان كذلك يرجع فيه إلى التقدير بالعرف ، فيكون الطعام مقدرا بقدر ما يطعم منه الانسان أهل بيته غالبا - لا من الاعلى الذي يتوسع به في المواسم والمناسبات ، ولا من الادنى الذي يطعمه في بعض الاحيان . فلو كانت عادة الانسان الغالبة في بيته أكل اللحم والخضروات وخبز البر فلا يجزئ ما دونه ، وإنما يجزئ ما كان مثله وأعلى منه ، لان المثل وسط ، والاعلى فيه الوسط وزيادة . وهذا مما يختلف باختلاف الافراد والبلاد . وقد كان الامام مالك ، رضي الله عنه ، يرى أن المد يجزئ في المدينة ، قال : وأما البلدان فلهم عيش غير عيشنا ، فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم ، لقوله تعالى : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) . وهذا مذهب داود وأصحابه . واشترط الفقهاء أن يكون العشرة المساكين من المسلمين إلا أبا حنيفة ، فإنه جوز دفعها إلى فقراء أهل الذمة . ولو أطعم مسكينا عشرة أيام ، فإنه يجزئ عن عشرة مساكين عند أبي حنيفة . وقال غيره : يجزئ عن مسكين واحد . وإنما تجب كفارة الاطعام على المستطيع ، وهو من يجد ذلك فاضلا عن نفقته ونفقة من يعول . وقدر بعض العلماء الاستطاعة بوجود خمسين درهما عنده كما قال قتادة ، أو عشرين كما قاله النخعي .
الكسوة : وهي اللباس . ويجزئ منها ما يسمى كسوة . وأقل ذلك ما يلبسه المساكين عادة - لان الاية لم تقيدها بالاوسط ، أو بما يلبسه الاهل ، فيكفي القميص السابغ ( جلابية ) مع السراويل . كما تكفي العباءة أو الازار والرداء . ولا يجزئ فيها القلنسوة أو العمامة أو الحذاء أو المنديل أو المنشفة . وعن الحسن وابن سيرين : أن الواجب ثوبان ، ثوبان . وعن سعيد بن المسيب : عمامة يلف بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها . وعن عطاء ، وطاووس ، والنخعي : ثوب جامع كالملحفة والرداء . وعن ابن عباس ، رضي الله عنه : عباءة لكل مسكين أو شملة . وقال مالك وأحمد ، رضي الله عنهما : يدفع لكل مسكين ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلا أو امرأة ، كل بحسبه .
تحرير الرقبة : أي إعتاق الرقيق وتحريره من العبودية ، ولو كان كافرا ، عملا بإطلاق الاية عند أبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر . واشترط الجمهور الايمان ، حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل والظهار ، إذ تقول الاية : ( فتحرير رقبة مؤمنة ) ( 1 ) . الصيام عند عدم الاستطاعة : فمن لم يستطع واحدة من هذه الثلاث ، وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام . فإن لم يستطع لمرض أو نحوه - ينوي الصيام عند الاستطاعة ، فإن لم يقدر ، فإن عفو الله يسعه . ولا يشترط التتابع في الصوم . فيجوز صيامها متتابعة ، كما يجوز صيامها متفرقة . وما ذكره الحنفية ، والحنابلة - من اشتراط التتابع - غير صحيح . فقد استدلوا بقراءة جاء فيها كلمة ( متتابعات ) وهي قراءة شاذة ولا يستدل بالقراءة الشاذة ، لانها ليست قرآنا - ولم تصح هنا حديثا حتى تكون تفسيرا من النبي صلى الله عليه وسلم ، للاية .
إخراج القيمة : اتفق الائمة الثلاثة على أن كفارة اليمين لا يجزئ فيها إخراج القيمة عن الاطعام والكسوة . وأجاز ذلك أبو حنيفة ، رضي الله عنه . الكفارة قبل الحنث وبعده : اتفق العلماء على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث ، واختلفوا في جواز تقديمها عليه . فجمهور الفقهاء يرى أنه يجوز تقديم الكفارة على الحنث ، وتأخيرها عنه ، ففي الحديث عند مسلم وأبي داود والترمذي : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل ) . ( 1 ) ففي هذا الحديث جواز تقديم الكفارة على الحنث . وإذا تقدمت الكفارة على الحنث كان الشروع في الحنث غير شروع في الاثم ، إذ تقديم الكفارة يجعل الشئ المحلوف عليه مباحا . وعند مسلم أيضا ما يفيد جواز تأخير الكفارة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من حلف على يمين فرأى
( هامش ) ( 1 ) أي يفعل ما فيه الخير .
غيرها خيرا منها فليأتها ، وليكفر عن يمينه ) . قال هؤلاء : ومن قدم الحنث كان شارعا في معصية ، وقد يموت قبل أن يتمكن من الكفارة ، ولعل هذه هي حكمة إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تقديم الكفارة . ويرى أبو حنيفة أن الكفارة لا تصح إلا بعد الحنث ، لتحقق موجبها حينئذ . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ) . معناه عنده : فليقصد أداء الكفارة ، كقوله تعالى : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ ) ( 1 ) أي إذا أردت . والاول أرجح .
جواز الحنث للمصلحة : الاصل أن يفي الحالف باليمين . ويجوز له العدول عن الوفاء ، إذا رأى في ذلك مصلحة راجحة . يقول الله تعالى : ( ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ) ( 1 ) . أي لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من البر والتقوى والاصلاح . ويقول عزوجل : ( قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم ) ( 2 ) . أي شرع الله لكم تحليل الايمان بعمل الكفارة . روى أحمد والبخاري ومسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ) .
أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه : وعلى هذا يمكن تقسيم اليمين باعتبار المحلوف عليه إلى الاقسام الاتية : 1 - أن يحلف على فعل واجب أو ترك محرم ، فهذا يحرم الحنث فيه ، لانه تأكيد لما كلفه الله به من عبادة . 2 - أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم . فهذا يجب الحنث فيه لانه حلف على معصية ، كما تجب الكفارة . 3 - أن يحلف على فعل مباح ، أو تركه . فهذا يكره فيه الحنث ويندب البر . 4 - أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه . فالحنث مندوب ، ويكره التمادي فيه . وتجب الكفارة . 5 - أن يحلف على فعل مندوب . أو ترك مكروه ، فهذا طاعة لله . فيندب له الوفاء ، ويكره الحنث .